فصل: (فرع: يلزم المكتري قلع ما بقي بعد الحصاد)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: مضت المدة والزرع لم يستحصد]

وإن اكترى أرضًا مدة ليزرعها، فزرعها، وانقضت المدة والزرع لم يستحصد.. فلا يخلو: إما أن يكون استأجرها لزرع مطلق، أو لزرع معين.
فإن كان استأجرها لزرع مطلق، وقلنا: يصح، فإن لم يستحصد لتفريط من المكتري، بأن زرع في الأرض زرعًا لا يستحصد في مثل تلك المدة، أو كان مما يستحصد فيها إلا أنه أخر زراعته.. فللمكري أن يطالبه بنقله عند انقضاء المدة؛ لأنه لا يفيد تقدير الإجارة بالمدة إلا تفريغ العين المستأجرة، فإن اتفقا على ترك الزرع إلى الحصاد بإعارة أو إجارة.. جاز. وإن لم يستحصد بغير تفريط منه، بأن اشتد البرد، أو قل المطر.. ففيه وجهان:
أحدهما: يجبر المكتري على نقل الزرع؛ لأنه فرط، أو كان يمكنه أن يستظهر بالزيادة في مدة الإجارة.
فعلى هذا: إن اتفقا على تركه بإجارة أو إعارة إلى الحصاد.. جاز.
والثاني: لا يجبر على نقله، وهو الصحيح؛ لأنه لا صنيع له في تأخر الزرع، وقد زرع ما يجوز له زرعه، وما قاله الأول.. غير صحيح؛ لأنه لا فائدة في أن يكتري أكثر مما جرت العادة بأن يدرك الزرع فيه في الغالب؛ لأن فيه تضييع الأجرة، و: «قد نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن إضاعة المال».
فعلى هذا: يجب للمكري أجرة المثل لما زاد على مدة الإجارة؛ لأنه لا يجوز الإضرار به في تعطيل منفعة أرضه بغير عوض.
وإن كان استأجر الأرض لزرع معين لا يستحصد في مثل تلك المدة.. نظرت:
فإن شرط عليه قلعه عند انقضاء المدة.. فالإجارة صحيحة؛ لأن له غرضًا في قلعه، فإذا انقضت المدة.. أخذ بقلعه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم»، وإن اتفقا على تركه بإجارة أو إعارة.. جاز.
وإن شرطا تبقية الزرع فيها إلى أن يستحصد.. فالإجارة باطلة؛ لأنه شرط ينافي مقتضى الإجارة، فأبطلها، وله أن يمنعه من الزراعة، فإن بادر المكتري، فزرعها قبل المنع.. لم يجبر على نقله؛ لأنه زرع مأذون فيه، ويجب للمكري أجره المثل؛ لأنه استوفى منفعة أرضه بعقد باطل.
وإن أطلقا ولم يشرطا القلع ولا التبقية.. فإن الإجارة صحيحة؛ لأن الانتفاع بالزرع في تلك المدة ممكن، وهل يجبر على نقله عند انقضاء المدة؟ فيه وجهان:
الأول: قال أبو إسحاق: يجبر؛ لأنه لا يفيد تقدير الإجارة بالمدة إلا ذلك، فإن تراضيا على تركه بإجارة أو إعارة.. جاز.
والثاني: من أصحابنا من قال: لا يجبر؛ لأن المكري لما أجره أرضه مدة لزرع لا يستحصد فيها.. فقد رضي بتركه فيها؛ لأن العادة جرت أن الزرع لا يحصد إلا بعد أن يستحصد.
فعلى هذا: يجب للمكري أجرة مثل أرضه؛ لما زاد على مدة الإجارة.

.[فرع: يلزم المكتري قلع ما بقي بعد الحصاد]

وإذا اكترى أرضًا للزراعة، فزرعها، وحصد زرعه.. فإنه يلزم المكتري قلع ما بقي في الأرض من قصب الزرع وعروقه؛ لأنه عين ماله، فلزمه إزالته عن أرض الغير.

.[مسألة: غرس زرع بعد انقضاء المدة]

وإن اكترى أرضًا مدة للغراس.. فليس له أن يغرس بعد انقضاء المدة؛ لزوال العقد، فإن غرس شيئًا بعد المدة.. أخذ بقلعه؛ لأنه غرس غير مأذون فيه، وأما ما غرسه قبل انقضاء المدة: فينظر فيه:
فإن كان قد شرط قلعه بعد انقضاء المدة.. أخذ بقلعه؛ لأنه دخل في العقد على ذلك، ولا يجب على المكري غرامة ما نقص الغراس بالقلع، ولا على المكتري تسوية حفر الأرض، ولا أرش نقصها بالقلع؛ لأنهما رضيا بذلك.
فإن قيل: هلا قلتم: إن شرط القلع يبطل هذه الإجارة؛ لأن إطلاقها يقتضي التبقية، وكل عقد صح مطلقًا بطل بالتوقيت، كالنكاح؟
قلنا: التبقية بعد المدة ليست من مقتضى العقد، فلذلك لم يبطل العقد إذا شرط ما يخالف مقتضاه، وإنما التبقية من مقتضى الإذن، فلذلك شرط القلع لم يؤثر في العقد.
وإن لم يشرطا القلع، ولكن أطلقا أو شرطا التبقية.. فالحكم فيهما واحد.
فإن لم يختر المكتري القلع.. لم يجبر على قلعه من غير عوض.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (يجبر على قلعه من غير عوض).
وقال مالك: (المكري بالخيار: بين أن يطالب بالقلع من غير ضمان، أو يدفع قيمته ليكون له، أو يبقيه في الأرض، ويكونا شريكين).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس لعرق ظالم حق». وهذا ليس بظالم، فوجب أن يكون له حق، ولأن كل من اكترى ملكًا لغيره.. فإن تفريغه على حسب العادة، والعادة في الشجر أنه يراد للتأبيد، ولا ينقل حتى يجف وييبس.
إذا ثبت هذا: فإن اختار المكري أن يقلع غراسه.. كان له ذلك؛ لأنه عين ماله، فملك نقله إلى حيث شاء، وهل يلزمه تسوية حفر الأرض، وأرش نقص إن حدث بها لأجل القلع؟ ينظر فيه:
فإن قلعه بعد انقضاء مدة الإجارة.. لزمه ذلك. واختلف أصحابنا في تعليله:
فمنهم من قال: لأنه قلع غراسه من ملك الغير بغير إذنه، فهو كالغاصب.
ومنهم من زاد وصفًا آخر، فقال: لأنه قلعه من أرض غيره بغير إذنه، ولا يد له عليها.
وإن كان ذلك قبل انقضاء المدة، فمن قال بالتعليل الأول.. فإنه قال: يجب عليه تسوية الأرض وأرش النقص، ومن قال بالثاني.. قال: لا يجب عليه هاهنا شيء. والأول أصح.
وإن لم يختر المكتري القلع.. فالمكري هاهنا بالخيار بين ثلاثة أشياء:
الأول: بين أن يعطي المكتري قيمة غراسه، ويتملكه مع أرضه. قال الشافعي: (وإن كانت عليه ثمرة.. أعطاه قيمة الثمرة أيضًا؛ لأنها ملك لصاحب الغراس). فلما جاز أن يعطيه قيمة الشجرة ويملكها.. فكذلك الثمرة.
والثاني: بين أن يقلع الغراس، ويضمن ما نقص بالقلع، فيقال: كم قيمته وهو ثابت؟ فإن قيل: مائة.. قيل: فكم قيمته وهو مقلوع؟ فإن قيل: خمسون.. دفع إليه خمسين، وقلع.
والثالث بين أن يقر الغراس في الأرض، ويطالبه بأجرة مثلها؛ لأن الضرر يزول عنهما بذلك.
فإن اختار إقراره بالأجرة، ثم بدا للمكري، وبذل قيمته ليتملكه، أو بذل أرش نقصه ليقلعه.. كان له ذلك.. وكذلك لو اختار المكتري قلع غراسه بعد أن كان قد رضي ببذل الأجرة.. كان له ذلك.
فإن باع صاحب الغراس غراسه من صاحب الأرض.. صح بيعه، وإن باعه من غيره.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأن ملكه غير مستقر؛ لأن لصاحب الأرض أن يبذل قيمته ليتملكه.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأن ملكه ثابت عليه في الحال، واستحقاق المكري إزالة ملكه عنه لا يمنع صحة البيع، كما لو باع ما فيه الشفعة.

.[فرع: غرس أرضًا في إجارة فاسدة]

فإن اكترى أرضًا كراء فاسدًا، فغرس فيها أو بنى.. كان الحكم في قلع ذلك أو إقراره حكم ما ذكرناه في الإجارة الصحيحة؛ لأنه مأذون فيه. وبالله التوفيق

.[باب ما يوجب فسخ الإجارة]

إذا وجد المستأجر بالعين التي استأجرها عيبًا لم يعلم به، تنقص به المنفعة، بأن وجد الظهر أعرج، أو وجد العبد المستأجر للخدمة أجذم، أو أبرص، أو انقطع الماء في البئر في الدار المستأجرة، وما أشبه ذلك.. فله أن يرد العين بالعيب؛ لأن إطلاق العقد يقتضي السلامة من العيب، فثبت له الرد لأجله، كما لو اشترى عينًا، فوجد بها عيبًا، وكذلك: إذا حدث العيب في العين المستأجرة في يد المستأجر.. فله أن يردها؛ لأن العين في يد المستأجر كالعين في يد المؤاجر، فإذا ثبت له الرد فيما كان موجودًا في يد المؤاجر.. فكذلك بما أحدث في يد المستأجر.
وإن اكترى أرضًا للزراعة فزرعها، فأفسد الماء أو الجراد زرعه، أو اكترى دكانًا ليبيع فيه البز، فاحترق بزه.. لم يكن له أن يفسخ الإجارة؛ لأن المنفعة لم تهلك، وإنما هلك مال المستأجر.
وأما إذا جاء سيل فغرق الأرض المستأجرة، أو زاد نهر فغرقها.. قال الشيخ أبو حامد: فإن كان السيل والماء ينفصل عنها بعد يوم أو يومين، أو بعد مدة لا تفوت بها الزراعة.. فإن الإجارة لا تنفسخ؛ لأن المنفعة لم تهلك، وإنما عارضها عارض، إلا أن له خيار الفسخ؛ لأن المنفعة تأخرت، فهو كإباق العبد المستأجر، وإن كان الماء بحيث لا يزول عنها، فإن كان ذلك عقيب عقد الإجارة.. انفسخت الإجارة؛ لأن المنفعة قد تلفت، ويسترد المستأجر المسمى إن كان قد دفعه، وإن كان قد مضى من زمان الإجارة مدة لها أجرة.. انفسخ العقد فيما بقي من مدة الإجارة، وهل ينفسخ فيما مضى منها؟ على الطريقين فيمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض.
فإذا قلنا: تنفسخ في الجميع.. وجبت عليه أجرة المثل؛ لما مضى من المدة.
وإن قلنا: تنفسخ في الباقي لا غير.. ثبت للمستأجر الخيار فيما مضى من المدة؛ لأن الصفقة تفرقت عليه، فإن فسخ العقد فيها.. كان كما لو قلنا: ينفسخ، وإن لم يفسخ.. قسم المسمى على أجرة المثل لما مضى، وأجره المثل لما بقي من المدة.
وإن استأجر دارا فتشعثت: لزم المكري إصلاحها، فإن أصلحها.. فلا كلام، وإن لم يصلحها.. فللمستأجر الخيار في فسخ الإجارة؛ لأن ذلك عيب بها. وإن لم تفسخ حتى مضت مدة الإجارة.. فهل يلزمه جميع الأجرة؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه جميع الأجرة؛ لأنه لم يستوف جميع المنفعة، فهو كما لو سكنها بعض المدة، فانهدمت.
فعلى هذا: يقال: كم أجرة مثل هذه الدار قبل التشعث؟ فإن قيل: عشرون.. قيل: فكم أجرة مثلها وهي متشعثة؟ فإن قيل: خمسة عشر.. سقط عنه من المسمى ربعه إن وجد التشعث في ابتداء مدة الإجارة، وإن وجد بعد مضي بعض المدة، بأن مضى من المدة نصفها.. رجع بثمن الأجرة.
والوجه الثاني: يلزمه جميع الأجرة المسماة؛ لأنه رضي بسكناها ناقصة، فلزمه جميع المسمى، كما لو اشترى عبدًا، فوجد به عيبًا ولم يرده.

.[فرع: رد العين المستأجرة بالعيب]

ومتى رد العين المستأجرة بالعيب، فإن كانت الإجارة وقعت على عينها.. لم يكن له أن يطالب ببدلها، كما لو اشترى عبدًا، فوجد به عيبًا فرده.. فإنه لا يطالبه ببدله.
فإن ردها بالعيب قبل أن يمضي شيء من المدة.. انفسخ العقد، ورجع بجميع المسمى، وإن كان ذلك بعد أن مضى شيء من المدة.. انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة، وهل تنفسخ فيما مضى؟ على الطريقين.
وإن كانت الإجارة على عين في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة برد العين، بل له أن يطالب ببدلها سليمة، كما لو أسلم إليه على شيء، فدفعه إليه، فوجد به عيبًا.

.[مسألة: استأجر دابة فماتت]

وإن استأجر من رجل عبدًا، فمات قبل قبض العبد، أو بهيمة بعينها، فماتت، فإن كان ذلك قبل أن يقبضها المستأجر.. انفسخت الإجارة، كما لو اشترى عبدًا، فمات قبل القبض. وإن قبضه المستأجر واستوفى المنفعة، ثم مات العبد، أو البهيمة.. لم يؤثر ذلك في الإجارة؛ لأنه قد استوفى المنفعة. وإن مات بعد أن قبضه المستأجر، وقبل أن يمضي شيء من مدة الإجارة.. انفسخت الإجارة، وبه قال كافة الفقهاء، إلا أبا ثور، فإنه قال: (لا تنفسخ، كما لو اشترى عبدًا، فقبضه، ثم مات في يده). وهذا خطأ؛ لأن المعقود عليه هو المنفعة، وقد تلفت قبل القبض، فانفسخت الإجارة، كما لو مات قبل القبض.
وإن مات العبد بعد أن استوفى المستأجر بعض المنفعة وبقي البعض.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل تنفسخ فيما مضى؟ على الطريقين.

.[مسألة: استأجر دارًا فهدمت]

وإن استأجر دارًا للسكنى فانهدمت.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (تنفسخ الإجارة)، وقال فيمن أجر أرضًا للزراعة، فانقطع ماؤها: (فإن الإجارة لا تنفسخ، ولكن يثبت للمستأجر الخيار في فسخ الإجارة).
فمن أصحابنا من قال: فيهما قولان:
أحدهما: تنفسخ فيهما الإجارة؛ لأن المنفعة المعقود عليها قد تلفت، فهو كما لو مات العبد المستأجر.
والثاني: لا تنفسخ الإجارة فيهما؛ لأن المنفعة فيهما لم تتلف، وإنما نقصت المدة، فهو كما لو تشعثت الدار المستأجرة.
ومنهم من حملهما على ظاهرهما، فقال: تنفسخ الإجارة في الدار، ولا تنفسخ في الأرض؛ لأن الدار غير باقية بعدم الانهدام، والأرض باقية بعد انقطاع الماء.

.[فرع: غصب العين المستأجرة]

وإن غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر.. نظرت:
فإن كانت الإجارة على منفعة في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة، فيطالب المستأجر المؤاجر بإقامة عين غيرها مقامها؛ لأن المعقود عليه في ذمته.
وإن كانت الإجارة على منفعة تلك العين.. نظرت:
فإن غصبها أجنبي.. فللمستأجر فسخ الإجارة؛ لأنه تأخر حقه، فإن فسخ.. فلا كلام، وإن لم يفسخ، فإن كانت الإجارة على عمل.. لم تنفسخ، بل متى وجد العين المستأجرة.. استوفى منفعته منها، وإن كانت الإجارة على مدة، فمضت المدة.. فهو كما لو اشترى عينًا، فأتلفها أجنبي قبل القبض.
وإن غصبها المؤاجر وكانت على مدة، فمضت قبل أن يفسخ المستأجر الإجارة.. فعلى الطريقين في العين المبيعة إذا أتلفها البائع قبل القبض.

.[مسألة: استكرى مرضعة فماتت]

وإن استأجر امرأة للإرضاع، فماتت المرأة، فإن كان قبل أن يمضى شيء من المدة.. انفسخت الإجارة، وإن كان بعد أن مضى شيء من المدة وبقي البعض.. انفسخت الإجارة فيما بقي، وهل تنفسخ فيما مضى؟ فيه طريقان.
وإن مات الصبي قبل أن يمضي شيء من المدة.. ففيه قولان:
أحدهما: لا تنفسخ الإجارة بموته؛ لأنه مستوفى به، فلا تبطل الإجارة بموته، كالراكب.
والثاني: تنفسخ، وهو المشهور؛ لأن العقد وقع على إيقاع الفعل فيه، وقد تعذر ذلك بموته، فانفسخت الإجارة، كما لو استأجره لخياطة ثوب، فتلف الثوب.
فإذا قلنا بالأول.. أقيم غير الصبي مقامه، إن تراضيا على ذلك.. جاز، وإن تشاحا.. فسخ العقد.

.[فرع: قذف الطفل لبن المرضع]:

وإن استأجر امرأة على إرضاع صبي، فصار يقذف من لبنها.. قال الصيمري: فللمستأجر أن يفسخ الإجارة؛ لأنه عيب فيها.

.[فرع: استنكف عن استئجار الطبيب]

وإن استأجر رجلًا ليقلع له ضرسًا ألمًا، فبرئ، أو ليكحل له عينًا عليلة، فبرئت قبل الكحال.. فهو كما لو مات الصبي الذي استؤجر على إرضاعه على ما مضى؛ لأنه لا يجوز قلع ضرس لا ألم فيه، ولا كحل عين لا علة بها.
وإن لم يبرأ، ولكن امتنع المستأجر من القلع أو الكحل.. قال ابن الصباغ: فإنه لا يجبر عليه؛ لأن الأجير إذا بذل العمل ومكن منه.. وجب على المستأجر دفع الأجرة.
وقال القاضي أبو الطيب في " المجرد ": عندي أنها لا تستقر، حتى إن هذا الضرس لو انقلع.. لانفسخت الإجارة، ووجب رد الأجرة، كما قلنا في النكاح إذا مكنت الزوجة من نفسها ولم يطأها، ويفارق إذا حبس الدابة مدة المسافة.. فإن الأجرة تجب عليه؛ لأن المنافع تلفت تحت يده.

.[مسألة: موت الأجير في الحج]

وإن مات الأجير في الحج بعد قطع المسافة وقبل الإحرام.. نظرت:
فإن كانت الإجارة على حج في الذمة.. لم تنفسخ الإجارة؛ لأن المعقود عليه يمكن استيفاؤه بعد موته، ولا يستحق الأجير لما قطع من المسافة شيئًا من الأجرة.
وإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. بطلت الإجارة؛ لأن المعقود عليه عمل الأجير بنفسه، وقد فات ذلك بموته.
وهل يستحق الأجير هاهنا شيئًا من الأجرة؟ المنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أنه لا يستحق شيئًا من الأجرة).
واستفتي أبو بكر الصيرفي وأبو سعيد الإصطخري عام القرامطة، وقد أحصر الناس قبل الإحرام، فأفتيا: أن للأجراء بقدر ما قطعوا من المسافة من الأجرة؛ لأن هذه المسافة لا بد منها، ولا يتوصل إلى النسك إلا بقطعها، فوجبت لها الأجرة. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الأجرة إنما يقابل المقصود بها، وهي الأفعال الواقعة على المستأجر، فأما السبب: فلا يقابله، كما إذا استأجره ليبني له، أو ليخبز له، فقرب آلة البناء وآلة الخبز، فمات قبل البناء والخبز.
فأما إذا مات الأجير بعد ما أتى بجميع أركان الحج، وبقي عليه الرمي والمبيت.. فقد سقط الحج عن المحجوج عنه، ويلزم الأجير الجبران بالدم لما بقي عليه، وهل يلزمه أن يرد شيئًا من الأجرة؟ فيه طريقان:
من أصحابنا من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يرد شيئًا؛ لأنه قد جبر ما تركه بالدم، فصار كما لو لم يترك شيئًا.
والثاني: يرد؛ لأنه فعل بعض ما استؤجر عليه، فصار كما لو استأجره ليبني له عشرة أذرع.. فبنى له تسعة.
ومنهم من قال: يرد، قولًا واحدًا؛ لما ذكرناه.
وأما الدم: فإنه وجب على الأجير لحق الله تعالى دون حق المستأجر.
وإن مات الأجير بعد الإحرام وقبل أن يأتي بالوقوف في الحج، أو بالطواف والسعي.. فهل يستحق هاهنا شيئًا من الأجرة؟
إن قلنا بقول الصيرفي وأبي سعيد الإصطخري: إنه يستحق شيئًا من الأجرة إذا مات بعد قطع المسافة وقبل الإحرام.. فهاهنا أولى أن يستحق.
وإن قلنا بالمنصوص: (إنه لا يستحق هناك شيئًا).. فهل يستحق الأجير هاهنا من الأجرة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يستحق شيئًا من الأجرة؛ لأن ما أتى به لا يسقط به عن المستأجر الفرض، فلم يستحق له أجرة، كما لو استأجر رجل رجلًا ليرد عليه عبده الآبق، فرده إلى بعض الطريق، ثم هرب منه.
والثاني: يستحق شيئًا من الأجرة؛ لأنه قد عمل بعض ما استؤجر عليه، فصار كما لو استأجره ليبني له عشرة أذرع.. فبنى له تسعة.
فإذا قلنا بهذا: فكم يستحق من الأجرة؟ اختلف أصحابنا فيه على طريقين:
فـالأول: ذهب أكثرهم إلى: أنها على قولين:
أحدهما: يقسط على قطع المسافة والعمل، وإن كان لو انفرد قطع المسافة.. لم يستحق له شيئًا؛ لأنه هاهنا تابع للعمل. ويجوز أن يتناول العقد شيئًا على وجه التبع وإن لم يفرد، كأساس الحيطان، وطي الآبار، يصح بيعه تبعًا لغيره، ولا يصح بيعه وحده.
والثاني: يقسط على العمل وحده؛ لأنه المقصود، بخلاف قطع المسافة، فإنه لو قابلها بشيء من العوض بعد العمل.. لقابلها قبل العمل.
والثاني: قال أبو العباس: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين: فالموضع الذي قال: (تتقسط الأجرة على العمل خاصة) إذا استأجره ليحصل له حجة، ولم يعين المسير من بلده.
والموضع الذي قال: (تتقسط الأجرة على قطع المسافة والعمل) إذا استأجره ليحصل له حجة من بلده.
إذا ثبت هذا: فهل يجوز البناء على عمل الأجير؟ فيه قولان:
قال في القديم: (يجوز)؛ لأنه عمل تدخله النيابة، فجاز البناء عليه، كسائر الأعمال.
وقال في الجديد: (لا يجوز). وهو الصحيح؛ لأنه عبادة يفسد أولها بفساد آخرها، فلا يتأدى بنفسين، كالصوم، والصلاة، وفيه احتراز من تفرقة الزكاة.
فإن قلنا بقوله الجديد، فإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. بطلت بموته، فإن كان وقت الوقوف باقيًا.. استأجر المستأجر من يحرم عنه بالحج، وإن كانت الإجارة في الذمة.. لم تبطل الإجارة بموت الأجير، ويستأجر ورثة الأجير من يستأنف الإحرام عن المستأجر. وإن فات وقت الوقوف.. تأخر الحج إلى السنة الثانية، فإن كانت الإجارة عن حي.. فله أن يفسخ الإجارة، ويسترجع الأجرة، وإن كانت عن ميت.. لم يكن للوصي أن يفسخ الإجارة؛ لأن الحي يستفيد بالفسخ التصرف في الأجرة، وهذا لا يوجد في الإجارة عن الميت.
وإن قلنا بقوله القديم، فإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه.. بطلت بموته، ويكون الذي يتولى الاستئجار لمن يتم هو المستأجر، وإن كانت الإجارة على حج في الذمة.. لم تبطل بموته، ويكون الذي يتولى الاستئجار لمن يتم هو وارث الأجير.
وأما ما يحرم به الأجير الثاني: فينظر فيه:
فإن كان وقت الوقوف باقيًا.. فإن الثاني يحرم بالحج من مكانه، ولا يجب الدم؛ لأنه بنى على إحرام الأول.
وإن كان قد فات وقت الوقوف بعد وقوف الأول.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول أبي إسحاق -: أنه يحرم بالعمرة، ويطوف ويسعى؛ لأنه لا يجوز أن يحرم بالحج في غير أشهر الحج، ولا يأتي بالرمي والمبيت؛ لأنه ليس في العمرة رمي ولا مبيت.
والثاني - حكاه الشيخ أبو حامد -: أنه يحرم إحرامًا مطلقًا لا ينوي به حجًا ولا عمرة.
والثالث - وهو ظاهر قول الشافعي -: أنه يحرم بالحج؛ لأنه بنى على إحرام الأول.
قال أصحابنا: وجميع هذه الأوجه ضعيفة؛ لأن:
على قول أبي إسحاق: يحرم بالعمرة، ويطوف عنها ويسعى، ثم يقع ذلك عما عليه من طواف الحج وسعيه، وهذا لا يجوز.
وعلى قول الثاني: الإحرام المطلق لا بد من صرفه إلى حج أو عمرة.
وعلى قول الثالث: يحرم بالحج في غير أشهر الحج، وهذا لا يجوز. وضعفها يدل على ضعف القول القديم الذي تفرعت عليه.